طلعت حرب

Admin عدد الرسائل : 862 نقاط : 6437

طلعت حرب

يحار الفكر كثيرا عندما يتناول بالبحث والدراسة إحدي الشخصيات العظيمة التي أثرت في الفكر الإنساني أو التاريخ الاقتصادي . فليس من السهل أن توافيها حقها وخاصة إذا كانت شخصية محمد طلعت حرب حيث نجد إن هذا الإنسان جمع في ملامح شخصيته العديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفنية والإنسانية جعلت منه أحد الرموز الشامخة في تاريخ مصر المعاصر وأحد عشاق مصر ومؤسسا للمدرسة المصرفية الوطنية فنجد أنه من الناحية الاقتصادية استطاع بفكره الثاقب ورؤيته المعاصرة للأمور أن يقيم أول شركة مصرفية قابضة في مصر *بنك مصر *وأن يؤسس عدة شركات صناعية وتجارية وزراعية كانت بمثابة أحد الأسس التي بنيت عليها النهضة الاقتصادية وكانت بمثابة اللبنة الأولي لمعظم التطورات التي حدثت بعد ذلك في الاقتصاد المصري ومن الناحية الاجتماعية نجد هذا الرجل يشارك في إبداء آراء معتدلة في قضايا مصر الاجتماعية في ذلك الحين مثل قضية الحجاب للمرأة المصرية وموضوع تحرير المرأة والاهتمام بحقوقها وتارة نجده يدافع عن قضايا الإسلام ضد أي هجمات ترد إلينا من الغرب .

كما ساهم في الحياة السياسية أيضا . فلقد كان وطنيا من الدرجة الأولي ولكنه لم يقحم نفسه قي معترك الألعاب السياسية في هذه الفترة بل شارك الجميع وتعاون مع من يسعى بجد و إخلاص لمصلحة مصر وفي غمرة المشاكل التي واجهها طلعت حرب لم ينس قط النواحي الثقافية والفنية فكان دائما القراءة والاطلاع هذا إلي جانب رحلاته للخارج واحتكاكه بالعديد من الأوروبيين والغربيين , مما أتاح له فرصة التعرف علي المجتمع الغربي والتعامل معه كما ساهم طلعت حرب في تأسيس الحركة الفنية في مصر من خلال إنشاء شركة مصر للتمثيل والسينما التي كانت بمثابة النافذة التي يطل منها بنك مصر علي العالم الخارجي يعرفه بشركاته ومؤسساته وبالحركة الاقتصادية الرائدة فيه وأيضا من خلالها يتصرف البنك علي أحدث التطورات الفنية والتكنولوجية بالخارج فيسارع بإقتنائها والاستفادة منها . وأخيرا تظهر شخصية هذا العملاق من خلال التعرف علي الجوانب الإنسانية الكثيرة في حياته , فقد كان مثالا للحزم في العمل والرحمة في التعامل , فلا يعرف معني الاستهتار في العمل إلا ويقابله بجدية وحزم وحراسة تظهر علي ملامحه بصفة شبه دائمة ومع ذلك كان ودودا مع موظفيه يعطيهم كامل حقوقهم طالما البنك كان يربح ويزداد أفاقه اتساعا علم الكثيرين بحكمته البالغة وبإرادته الحازمة وبسلوكه المتميز وعقله المتفتح الذي يزن الأمور بميزان المصلحة العليا للدولة والبنك معا إن هذه الشخصية المتعددة الأبعاد لا يمكن أن نوافيها حقها في هذه الكلمات المتواضعة ولكن هذه محاولة لإلقاء بعض الأضواء عليه ليكون قدوة للأجيال القادمة

إنشائه المبكرة

ولد في 25 نوفمبر 1867 بحي قصر الشوق بالجمالية وهو أحد الأحياء القاهرية التي تتميز بتماسك أهلها وحبهم لبعضهم البعض وباقي ملامح أهل البلد

كان والده حسن محمد طلعت حرب قد ولد في ميت أبو علي وهي قرية صغيرة تابعة لمركز الزقازيق بمدرية الشرقية وكان والدته تنتمي إلي عائلة صقر في قرية كفر احمد التابعة لمركز منيا القمح بنفس المديرية

وكانت عائلة طلعت حرب ترجع في الأساس إلي أصول بدوية ونجد أن عنصر النجاح في شخصية طلعت حرب هو مصريته وريفيته وانتمائه الي حي شعبي حيث نجد أن هذه النشأة أورثته حب الوطن والتفاني من أجله ومن أجل رفاهية مواطنيه وأهله الذين عانوا الكثير من المرابين والمستعمر والفقر والمرض لذا سعي طلعت حرب من خلال بنك مصر إلي إنشاء الشركات المتحدة التي تساعد علي الاستقلال الاقتصادي لمصر وبالتالي زيادة معدلات النمو الاقتصادي ورفع مستوي المواطنين وزيادة رفاهيتهم .

كان جد طلعت حرب لامه يعمل باش كاتب في السكة الحديدية براتب 60 جنيها في الشهر . أما والد طلعت حرب حسن محمد فكان موظفا بمصلحة السكة الحديدية ويرجع أصله إلي قرية ميت أبو علي محافظة الشرقية .

التحق طلعت حرب بالكتاب وحفظ القرآن ثم أتم دراسته الثانوية بالمدرسة الخديوية في أغسطس 1885 بعدها التحق بمدرسة الحقوق فحصل علي شهادة الإدارة والألسن فعمل مترجما نعلم القضايا وكان طلعت حرب مولع بالتجارة فتح محل منتجات ألبان ثم محل بقالة ولكنه لم يفلح ثم عمل مديرا لشركة كوم أمبو وكان يزيد علي دراسته تفوقه في اللغة الفرنسية وكان طلعت حرب يتعامل بالجلد في العمل والإيمان بالله والثقة في المستقبل وكتمان أسرار العمل والاقتصاد والتدبير والأصالة , حيث نجده يقول إنه يجب علينا أن نوفد أولادنا إلي كل بلد ينتظر منه علما نافعا أو تجربة مجدية وعلينا أن نغترف من فن وحضارة الآخرين ولكن علي أن نحتفظ بالعقلية المصرية المستقلبة فلا يفيد تعليم ولا تعلم ما لم يكن منطبقا علي طبيعة الإنسان , كانت عائلة طلعت حرب تمتلك بشكل جماعي ما يتراوح بين عشرة أفدنة وستة عشر فدانا وهذا يسمح لهم بالتأكيد بأن يكونا ضمن السكان الذين يحظون بالاحترام في القرية ولكن لم يكن لوالد طلعت حرب نصيبا كبيرا من الأفدنة وبعد تعرضه لمصاعب مالية وعائلية نزح مع أسرته إلي القاهرة وكانت أسرة طلعت حرب تتكون من والده ووالدته وأشقائه محمود عبد العزيز ويوسف وشقيقته وأصبح والده موظفا في مصلحة السكة الحديدية الحكومية وفي القاهرة بدأ طلعت حرب دراسته متمسكا بمبادئه وبالتقاليد التي تربي عليها
حياته الخاصة

كان طلعت حرب لا يدخن أبدا أو يشرب خمرا وكان حنونا علي أولاده وهم فاطمة وعائشة وخديجة وهدي وحسن وكان بين بناته طفل صغير توفي ، ولم يتزوج بعد وفاة زوجته ورفيقة عمره وكرس حياته لعمله وبناته وكان رب أسرة بمعني الكلمة .

كان يحتفل برمضان بدعوة جميع موظفي البنك وأحبائه وأصدقائه وعائلته في منزله بالعباسية الذي أصبح فيما بعد مدرسة للصم والبكم تم تحول بعد ذلك لكلية التربية النوعية . وللأسف ضاعت ملامحه بالنشيد والبناء غير المصرح به من العائلة وهذه غلطة يحاسب عليها القانون لان المنزل كان تحفة فنية ولم يتم بيعه لأي جهة وكان أجمل المناطق والأماكن التي يفضلها طلعت حرب فهي رأس البر والنضاعية أو العنانية -كما يطلقون عليها- لأنه كان يميل للهدوء والطبيعة وكان دائم السفر إلي جميع الدول الأوربية

عشقه لمصر

كان طلعت حرب يعشق كل شيء مصري من مأكولات او مشروبات أو ملابس فكان يقدم لضيوفه شراب النعناع والخروب والعرقسوس أما ما كان يعشقه من مأكولات فالدقاقي والمشويات والمحمرات والملوخية والبامية والمحاشي , أما ملابسه فكانت في الصيف الجلباب الأبيض الحرير المصري وفوقه العباية البيضاء الحريرية الفضفاضة والمنشة البيضاء العاج الأبيض .

أما ملابسه في الشتاء فكانت الجلباب الصوفي المصري وفوقها العباية الصوف الثقيلة والمنشة السوداء العاج الأسود .

كان طلعت حرب يعشق الموسيقي العربية أو الغناء العربي وإذا قرأ أدبا كان الأدب العربي القديم وكان يقرأ الأدب والشعر الفرنسي وكان مزاجه بسيطا فهو لا يدخن ولا يسهر وينام قبيل الساعة العاشرة ويستيقظ مبكرا في نحو الخامسة , يقرأ وردة ثم يقرأ الصحف ويأخذ بعد ذلك حماما ثم يتناول الإفطار وفي الساعة 8 صباحا كان في البنك لا يتأخر عن موعده إلا إذا كان في سفر في الداخل او الخارج او كان مريضا وقليلا عندما كان يمرض لان بنيته قوية

وكان نظره قويا ولم يرتد نظارة طبية لان من عاداته أن يقطر بعضا من نقط الليمون البنزهير في عينيه فكانت غسولا لعينيه ومطهرا لها .

ماتت زوجته وهو في كامل الرجولة والشباب فلم يتزوج سواها.

كان من حق طلعت حرب أن يتساءل أين كانت مصر الصناعية قبل 7 مايو سنة 1920, ثم أين هي في أغسطس سنة 1941 حينما شعر طلعت حرب بدنو شبح الموت منه ودعوته له أن يتهيأ للرحلة الأخيرة وكان من حقه أن يقول لقد تغني مصطفي كامل بمصر وأنا جعلت هذا الاسم , مصر معشقوتي فوق الطائرات والبواخر الباخرة زمزم والباخرة النيل وعلي ساريات الأعلام فوق أبنية الشركات في مصر والأقاليم وفي سوريا ولبنان وجدة ومكة .. رحم الله هذا الرجل العظيم طلعت حرب وبصمته محفورة في كل مكان ولا ننسي انه أول من شجع علي فتح دفتر توفير لكل تلميذ في مراحل تعليمة الأولي وإعطاء سلفة لصغار المزارعين حتى لا يقعوا تحت يد المستعمر الأجنبي